كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الشِّفَاءَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ شِفَاءَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَكِي صَدْرِي فَقَالَ: «اقْرَأِ الْقُرْآنَ»؛ يَقُولُ اللهُ: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} وَفِيهِ أَنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ فِي الْغَالِبِ أَلَمٌ نَفْسِيٌّ لَا بَدَنِيٌّ، قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ دِينِيًّا وَقَدْ يَكُونُ دُنْيَوِيًّا كَالْخَوْفِ وَالْحَاجَةِ، وَقِرَاءَةُ الْمُؤْمِنِ لِلْقُرْآنِ تَنْفَعُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (6: 125) وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (15: 97- 99) وَالتَّسْبِيحُ بِحَمْدِ اللهِ وَالسُّجُودُ لَهُ وَعِبَادَتُهُ بِالصَّلَاةِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، كَمَا قَالَ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [39: 22] الآية.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعَ حَلْقِهِ قَالَ: «عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَالْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» وَهُوَ عَلَى ضَعْفِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قِيلَ إِذْ مَعْنَاهُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ، تَعْلَمْ مِنْهُ مَا يُفِيدُكَ، إِذْ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الصُّدُورِ وَالْعَسَلَ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الْبَدَنِ، فَهُوَ كَوَصْفِهِ صلى الله عليه وسلم الْعَسَلَ لِمَنْ شَكَا لَهُ اسْتِطْلَاقَ بَطْنِ ابْنِ أَخِيهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الطِّبِّ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَسَلَ مُطَهِّرٌ طِبِّيٌّ وَمُضَادٌّ لِلْفَسَادِ، وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ يَكُونُ مِنْ فَسَادٍ فِي الْأَمْعَاءِ، وَكَذَا وَجَعُ الْحَلْقِ بِالْتِهَابِ اللَّوْزَتَيْنِ وَنَحْوِهِ وَالْعَسَلُ مُطَهِّرٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شِفَاءً لِأَمْرَاضِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ تَنْكِيرَ الشِّفَاءِ فِي آيَةِ الْعَسَلِ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ لَا الْعُمُومِ. عَلَى أَنَّ الرُّقْيَةَ بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا قَدْ تُفِيدُ فِي شِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، وَلاسيما إِذَا كَانَ الرَّاقِي قَوِيَّ الْإِيمَانِ وَالْمَرْقِيُّ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ.
(الثَّالِثَةُ: الْهُدَى) وَهُوَ بَيَانُ الْحَقِّ الْمُنْقِذُ مِنَ الضَّلَالِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْبُرْهَانِ، وَفِي الْعَمَلِ بِبَيَانِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ فِي أَحْكَامِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مَا فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ مِنْ مَبَاحِثِ الْوَحْيِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنْوَاعِهَا الدِّينِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَأَنْوَاعِهِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
(الرَّابِعَةُ: الرَّحْمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ) وَهِيَ مَا تُثْمِرُهُ لَهُمْ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ وَتُفِيضُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمُ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ صِفَةُ كَمَالٍ مِنْ آثَارِهَا إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ وَكَفُّ الظُّلْمِ، وَمَنْعُ التَّعَدِّي وَالْبَغْيِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرِّ، وَمُقَاوَمَةِ الشَّرِّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (48: 29) وَبِقَوْلِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (90: 17).
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَالْمَوْعِظَةُ: التَّعَالِيمُ الَّتِي تُشْعِرُ النَّفْسَ بِنَقْصِهَا وَخَطَرِ أَمْرَاضِهَا الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ، وَتُزْعِجُهَا إِلَى مُدَاوَاتِهَا وَطَلَبِ الشِّفَاءِ مِنْهَا، وَالشِّفَاءُ تَخْلِيَةٌ يُتْبِعُهَا طَلَبُ التَّحْلِيَةِ بِالصِّحَّةِ الْكَامِلَةِ، وَالْعَافِيَةُ التَّامَّةُ، وَهُوَ الْهُدَى، وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ هَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي لَا تُوجَدُ عَلَى كَمَالِهَا إِلَّا فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ، وَلَا يُحَرِّمُهَا إِلَّا الْكَافِرُونَ الْمَادِّيُّونَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا ضَعْفٌ فِي الْقَلْبِ، يَجْعَلُ صَاحِبَهُ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْعَطْفِ، وَمَا هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ وَفَلْسَفَةِ الْكُفْرِ، فَلَقَدْ كَانَ أَشْجَعُ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا وَقَلْبًا، أَرْحَمَ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ عَطْفًا، وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (9: 128) بَلْ جَعَلَهُ عَيْنَ الرَّحْمَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (21: 107) وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُهُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حَتَّى كَانَ مَنْ يُوصَفُ بِالشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صَارَ مِنْ أَرْحَمِ النَّاسِ وَسِيرَتُهُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ.
وَقَدْ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ وَهُوَ وَفِي الصَّلَاةِ بُكَاءَ طِفْلٍ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، أَيِ اخْتَصَرَ وَخَفَّفَ رَحْمَةً بِهِ وَبِأُمِّهِ، وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ بِلَالًا- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرَّ بِصَفِيَّةَ وَبِابْنَةِ عَمٍّ لَهَا عَلَى قَتْلَى قَوْمِهِمَا الْيَهُودِ بَعْدَ انْتِهَاءِ غَزْوَةِ قُرَيْظَةَ فَصَكَّتِ ابْنَةُ عَمِّهَا وَجْهَهَا وَحَثَتْ عَلَيْهِ التُّرَابَ وَهِيَ تَصِيحُ وَتَبْكِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَهُ: «أَنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ حَتَّى مَرَرْتَ بِالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَاهُمَا» وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُقَبِّلُونَ أَوْلَادَكُمْ وَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ: «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
بَلْ كَانَ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الرَّحْمَةِ بِالْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ وَالْحَشَرَاتِ، وَطَالَمَا أَوْصَى بِهَا وَلاسيما صِغَارِهَا وَأُمَّهَاتِهَا. جَاءَهُ مَرَّةً رَجُلٌ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّنِي لَمَّا رَأَيْتُكَ أَقْبَلْتَ، فَمَرَرْتُ بِغَيْطَةِ شَجَرٍ فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعَتْهُنَّ فِي كِسَائِي فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي وَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِنَّ فَلَفَفْتُهَا مَعَهُنَّ بِكِسَائِي فَهُنَّ أُولَاءِ مَعِي، فَقَالَ: ضَعْهُنَّ (قَالَ) فَفَعَلْتُ فَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إِلَّا لُزُومَهُنَّ فَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَتَعْجَبُونَ لِرَحْمَةِ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَ: «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ، وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ»، فَرَجَعَ بِهِنَّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَرَوَى مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا حَدِيثَيْنِ خُلَاصَتُهُمَا أَنَّ اللهَ غَفَرَ لِرَجُلٍ وَلِامْرَأَةٍ بَغِيٍّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَأَى كَلْبًا قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ فَرَحِمَهُ وَأَخْرَجَ لَهُ الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ بِخُفِّهِ فَسَقَاهُ، قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ عَنْ غَيْرِهِ بِلَفْظِ «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ».
وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَرَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا بِالْأَوَّلِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ أُسْتَاذِنَا الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ أَبِي الْمَحَاسِنِ الْقَاوَقْجِيِّ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فِيهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (15: 49، 50) وَيَقُولُ: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (12: 87) وَيَقُولُ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (7: 99) وَمَا دَامَ الْمُؤْمِنُ حَيًّا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ اللهَ خَوْفًا يُرْهِبُهُ وَيَزْجُرُهُ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَأَنْ يَرْجُوَهُ رَجَاءً يُرَغِّبُهُ فِي ثَوَابِهِ وَمَا يُرْضِيهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ مَجْهُولٌ لَنَا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذْلِيِّ قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُ: (وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَ وَنَخَافَ، فَآمِنْ خَوْفَنَا، وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا) اللهُمَّ آمِينْ.
خَاطِبَ اللهُ تَعَالَى بِمَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُمْ جَمِيعُ النَّاسِ، فَمَوْعِظَةُ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ شِفَاءٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالرَّذَائِلِ، وَهُدَاهُ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضَائِلِ مُوَجَّهَاتٌ إِلَى الْجَمِيعِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تُثْمِرُهُ الثَّلَاثُ مِنَ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، ثُمَّ خَاطَبَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُبَلِّغَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ يَحِقُّ لَهُمْ أَنْ يَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَبِهَذِهِ الرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ لِاسْتِجْمَاعِهِمْ كُلَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنْ مَقَاصِدِ تَشْرِيعِهِ فَقَالَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فَضْلُ اللهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ عَظِيمٌ وَهُوَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَعْظَمُ، وَرَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ لَهُمْ وَبِهِمْ وَاسِعَةٌ، وَرَحْمَتُهُ الْخَاصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَوْسَعُ، وَبِكُلٍّ مِنَ النَّوْعَيْنِ نَطَقَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ مَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْجَمْعِ لَهُمْ بَيْنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ فِي آيَاتٍ، وَبِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي آيَاتٍ، وَقَالَ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (24: 21) وَإِنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْفَرَحِ بِهِ فَهُوَ يَرُدُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَيَرُدُّهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ مِنَ الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَعْنًى، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا (فَضْلُ اللهِ الْقُرْآنُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِهِ) وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْقُوفًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ:
(إِحْدَاهُمَا) إِنَّ فَضَلَّ اللهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتَهُ: الْإِسْلَامُ و(الثَّانِيَةُ) إِنَّ الْفَضْلَ: الْعِلْمُ، وَالرَّحْمَةَ: مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالضِّحَاكِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ، فَضْلُ اللهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا فِي رِوَايَتِهَا. وَأَظْهَرُهَا فِي الْآيَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَهَا وَالْجَامِعُ لِمَعَانِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، أَنَّ فَضْلَ اللهِ: تَوْفِيقُهُ إِيَّاهُمْ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالشِّفَاءِ وَالْهُدَى الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ ثَمَرَتُهَا الَّتِي فَضَلُوا بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ فَكَانُوا أَرْحَمَهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَعْدَلَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِمْ، فَقَدْ أَمَرَهُمْ هَذَا الْقُرْآنُ بِالْبَرِّ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْقِسْطِ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَأَمْرَهُمْ بِالرَّحْمَةِ حَتَّى فِي الْمُحَارِبِينَ لَهُمْ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ شَرَّهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْمَقْصِدِ الثَّامِنِ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَلَوْلَا مُرَاعَاةُ هَذَا التَّنَاسُبِ لَقُلْتُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هُوَ قَوْلُهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (2: 143) الآية، وَقَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (30: 110) الآية وَلَكِنْ مَا قَلْتُهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ وَيُوَافِقُهُ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَالْفَرَحُ كَالسُّرُورِ: انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ بِنِعْمَةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ يَلَذُّ الْقَلْبَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ وَضِدَّهُمَا الْأَسَى وَالْحُزْنُ وَهُمَا مِنَ الْوِجْدَانِ الطَّبِيعِيِّ لَا يُمْدَحَانِ وَلَا يُذُمَّانِ لِذَاتِهِمَا، بَلْ حُكْمُهُمَا حُكْمُ سَبَبِهِمَا أَوْ أَثَرِهِمَا فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهِمَا، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى هُنَا بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَرَحِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ} (30: 4، 5) وَهَذَا فَرَحٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، ثُمَّ قَالَ فِيهَا: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} (30: 36) وَقَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَيَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (13: 36) الآية.
وَذَمَّ سُبْحَانَهُ الْفَرَحَ بِالْبَاطِلِ وَفَرَحَ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ بِالْمَالِ وَمَتَاعِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مَعْرُوفَةٍ. وَجَعَلَ الِاعْتِدَالَ بَيْنَ الْفَرَحِ وَالْأَسَى وَالْحُزْنِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَرْبِيَتِهِمْ بِالْمَصَائِبِ الْمُقَدَّرَةِ فِي كِتَابِ اللهِ: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (57: 23)
وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْحُزْنِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ (9: 40).
وَالتَّعْبِيرُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيرِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى بِدُونِهِمَا: قُلْ لِيَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَأَخَّرَ الْأَمْرَ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقَهُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِهِ فَهُوَ فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ (الْفَاءَ) لِإِفَادَةِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ فَصَارَ فِيهِمَا {فَلْيَفْرَحُوا} دُونَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمُبَيَّنِ فِي آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَى الْأَمْرِ {فَبِذَلِكَ} لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَتَفْصِيلِ مَبَاحِثِهِ فِي الْإِعْرَابِ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْنَا، وَبَسْطُهُ يُشْغِلُ عَنِ الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ مَنْهَجِنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ.
ثُمَّ قَالَ: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أَيْ أَنَّ الْفَرَحَ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُونَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وَسَائِرِ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ فَقْدِهِمَا لَا لِأَنَّهُ سَبَبُ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، الْمُفَضَّلَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، كَمَا اشْتُهِرَ فِيمَا خَطَّتْهُ الْأَقْلَامُ وَلَاكَتْهُ الْأَلْسِنَةُ، بَلْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ كَمَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ إِذْ كَانَتْ هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ سَبَبًا لِمَا نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى مِنَ الْمُلْكِ الْوَاسِعِ، وَالْمَالِ الْكَثِيرِ، مَعَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعِزِّ الْكَبِيرِ، فَلَمَّا صَارَ جَمْعُ الْمَالِ وَمَتَاعُ الدُّنْيَا وَفَرَحُ الْبَطَرِ بِهِ هُوَ الْمَقْصُودَ لَهُمْ بِالذَّاتِ، وَتَرَكُوا هِدَايَةَ الدِّينِ فِي إِنْفَاقِهِ وَالشُّكْرِ عَلَيْهِ، ذَهَبَتْ دُنْيَاهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضِلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يُجَادِلُونَ فِيهِ، تَعْزِيزًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَدَفْعِ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ التَّشْرِيعِ الْعَمَلِيِّ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْأَرْزَاقِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْخَلْقُ الْإِبَاحَةَ، وَقَاعِدَةِ كَوْنِ انْتِحَالِ الْعَبِيدِ حَقَّ التَّشْرِيعِ الْخَاصِّ بِرَبِّهِمُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ وَكُفْرًا بِهِ، يَسْتَحِقُّ فَاعِلُوهُ أَشَدَّ عِقَابِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَوْنِهِ مُبَلِّغًا لِهَذَا الْقُرْآنِ عَنْهُ تَعَالَى، مُؤَكَّدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى صِدْقِهِ، وَعَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللهِ الْمُعْجِزَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أَيْ أَخْبِرُونِي أَيُّهَا الْجَاحِدُونَ لِلْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ الْإِلَهِيِّ {مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَفَاضَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ سَمَاءِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مِنْ رِزْقٍ تَعِيشُونَ بِهِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَكُلُّ عَطَاءٍ مِنْهُ تَعَالَى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِنْزَالِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} (39: 6) وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (57: 25)- {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} أَيْ فَتَرَتَّبَ عَلَى إِنْزَالِهِ لِمَنْفَعَتِكُمْ أَنْ جَعَلْتُمْ بَعْضَهُ حَرَامًا وَبَعْضَهُ حَلَالًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} إلى قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا} (6: 136- 150) الْآيَاتِ وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (5: 103) أَيْ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَقَالَ هُنَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَمُدَّتْ هَمْزَتُهُ لِدُخُولِهَا عَلَى أَلْفِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ أَنْ يُحَرِّمُ عَلَى النَّاسِ وَيُحِلَّ لَهُمْ إِلَّا رَبُّهُمُ اللهُ، فَهَلِ اللهُ هُوَ الَّذِي أَذِنَ لَكُمْ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ؟ {أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} بِزَعْمِكُمْ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ أَيْ لَا مَنْدُوحَةَ لَكُمْ عَنِ الْإِقْرَارِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا دَعْوَى الْإِذْنِ مِنَ اللهِ لَكُمْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِالْوَحْيِ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ وَتُلِحُّونَ وَتَلِجُّونَ فِي الْإِنْكَارِ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِمَّا الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ؟ وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُكُمْ بِإِنْكَارِ الْأَوَّلِ؛ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ و{أَمْ} مُتَّصِلَةً، فَيَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَأَصْلُ الْفَرْيِ قَطْعُ الْجِلْدِ لِمَصْلَحَةٍ وَالِافْتِرَاءُ تَكَلُّفُهُ وَغَلَبَ فِي تَعَمُّدِ الْكَذِبِ.